انتظار الحِنَّاوي- م/ هشام العطار

في ذلك الشتاء البارد اخترق نافذتي شعاع شمس فأذاب بعضاً من برودة غرفتي، فخرجت التمس الدفء بساحة البضائع أمام الوكالة، فوجدت أن القصر الجديد الذى شيده مراد بك على ضفة النيل المقابلة لبولاق قد اكتمل بناؤه.
على جانب النهر مرت رياح بطيئة لها وقع الصقيع فضمت شجرة التين أوراقها كآذان قطيع من الأفيال تحمى رؤوسها من سهام مدببة تطلق عليها من مكان بعيد، فإذا بجابي المكوس يمتطى حماره الابيض ويشد لجامه .. يخترق صفوف الاشجار ليتقدم نحو الوكالة فبادرته بالتحية.
- حمد الله على السلامة يا زكى افندي .. تفضل عند الكاتب فخذ واجب الضيافة و سيعطيك المبلغ المطلوب كالعادة فقد جهزناه لك منذ أسبوع.
- أشكرك يا شيخ حِنَّاوي ولكن المكوس زيدت إلى العُشْر.
- العُشْر؟ لقد كنا ندفع لكم نصف العُشْر بالكاد فكيف تزيدونها للضعف بتلك البساطة.
- لعلك تعلم أن الفرنجة متربصون بثغر الأسكندرية وتجهيز المؤن ، و صنع السلاح يحتاج إلى مال.
- اسمعني يا زكى أفندي
- لا يوجد في خزانتنا اليوم سوى نصف العُشْرِ كالعادة .. اقبلها ألآن وسنعطيك من فضل الله‘ أما أنا فسأذهب إلي مراد بيك ليعفيني من الزيادة.
- ألا يكفى خراج الزكاة لاستكمال تجهيز المحاربين؟
- أنا رهن إشارتك ولكن إذا قَبِلْتَ النصيحة فعليك بإبراهيم السنارى .. لقد نَصَّبَهُ مراد بك كتخدا وهوألآن في يده الحل والربط.
- يا للعجب .. إبراهيم السنارى صار كتخدا ؟.
زحفت ابتسامة باهتة حتى غطت وجه زكى افندي ثم انصرف الى الكاتب.
اعتليت مهرتي و توجهت لبيت السنارى، استأذنت الحرس فأدخلوني إلي بهو الاستقبال فألفيته يعج بالمنتظرين من التجار و النقباء و أصحاب الأطيان .. وبعد ساعة ظهر رجل في ثياب مزركشة و شارب بجناحي صقر فرماني بنظرة حادة كما لو كان اكتشف وجودي فجأة.
فتقدم نحوى بكوب من القهوة اليمنية قائلا: مرحبا بك في بيت السنارى” فدَسَسَتُ فى جيبة ديناراً و أفصحت له عن رغبتي في مقابلة الكتخدا فقال انتظر حتى أُخبِرَهُ.
تخيرت مقعداً مجاوراً للشرفة فزاغ بصري نحو الشارع فظهرت حوانيت القصابين و الحدادين و تأملت أفواجاً من المارة يروحون و يسرحون منهم من يكتسون بالعباءات الأزهرية ويضعون العمامات المخملية وآخرون يرتدون أقمصة و سراويل و يزينون رؤوسهم بالطرابيش الحمراء و فلاحين و فلاحات و باعة منتشرون يعرضون الفواكه و الخضراوات على الارصفة.
وطال الانتظار دهراً حتى اختفت حوانيت القصابين و الحدادين وحلَّ محلها دكاكين ذات واجهات زجاجية تعرض نمارق وأباريق نحاسية وجواهر ذهبية ثم طال الانتظار حتى رأيت أفنديات من الفرنجة يَشدُدْنَ أربطةً حول أعناقهن ويحشرن رؤوسهن في قبعات ضيقة بيضاء. تحوَّل بصرى إلى داخل قاعة الانتظار لأجد تمثالاً لنابليون بزيِّه العسكري الازرق إلى أن قطع شعاع بصري رجل أسمر يرتدى حُلَّة بيضاء و يُطَّوِقْ رقبته برابطة عنق كالفراشة فقال: مرحبا بك في بيت السنارى” ‘وسألني عن سبب انتظاري
فقلت: أنا محمود أصغر أحفاد الشيخ الحِنَّاوي ‘ أود مقابلة الخواجة “جلياردوب” مدير هذا المتحف فقد علمت ان له كلمة مسموعة لدى وزيرالمالية ؛ لكى يخفف الضرائب عن محلاتنا فقد زادوها إلي الثُّمُنْ ‘ ولكنا لا نستطيع الدفع ‘ فقد تبدل الحال و بعنا الوكالة التي كان يمتلكها جدى و اكتفينا بالدكاكين التي كانت تابعة للوكالة لنبيع فيها الزيوت العطرية في السوق.
أعطاني الرجل أذناً مصغية فأمسكت بيده و ناولته جنيها كاملا فابتهج ودقت طبول قلبه فأخبرني أن صداقته مع الخواجة قوية لدرجة أنه يستطيع إقناعه بإلغاء الضرائب تماما .. فذهب وغاب ‘ ثم عاد ليبشرني بأن الخواجة سيفاوض الوزير على إعفاء محلات الحناوي من كامل الضرائب ؛ ولكن الأمر يحتاج أن يتنازل أولاد الحناوي عن الدكان الرئيسي لصالح الخواجة ليكون مقراً ادارياً للمتحف.
عدت بالمقترح لأبى وإخوتي وأبناء عمومتي لنتدارس الفكرة ثم رجعتُ أنتظر الخواجة لإتمام الاتفاق.
فانتظرت طويلاً بجوار الشرفة وطال الانتظار دهراً حتى لمحت مجموعة من الموظفين يدخلون إلى البهو فجاء الساعي ببدلة صفراء يسألني “أهلا بيك فى بيت السنارى .. أجيب لك كوبايه شاي ؟ ولا فنجان قهوه ؟”
فأخرجت له عشرين جنيها وسألته ” هل حضر المدير؟” ..
في إحدى الغرف الأثرية كان مدير الدار يجلس خلف كومةً من الأوراق الصفراء على مكتب من الصاج الرمادي المتسخ بدوائر بنية من آثار اكواب الشاي‘بادرت بالكلام قائلاً : أنا صابر حفيد الشيخ الحِنَّاوي
قال المدير بلهجة الواثق : أنتم أصحاب محل الحِنَّاوي المشهور.
- نعم يا سيدى‘ لقد كنا أصحابه ولكن لم يعد المحل ملكنا لقد بعناه وبعنا الاسم بالمزاد سداداً للديون يا سيدى ..
- …
- ولقد سمعت أن هذه الدار قد آلت ملكيتها الى هيئة الآثار‘ فهل أجد وظيفة لديكم؟
أجاب المدير من خلف الاوراق: للأسف التوظيف متوقف في الوقت الحالي .. ولكن يمكنك الانتظار”.
فتخير صابر مقعداً بجوار الشرفة المطلة على الشارع,ومازال الحِنَّاوي إلى الآن منتظراً.